زوجة شهيد
إننا ضعفاء، غرباء لا حيلة لنا
في هذه الدنيا..
العبودية أعظم ما نملكه، ومحبة
الله والسعي لعبادته هي أشد ما نسير عليه وتهون في هذا الدرب كل السبل..
بل وكل المشاعر..
تلك المشاعر المفعمة بالمحبة أو
الشقاء والتعب، بالشوق أو البعد بالحنين أو الانتظار..
لن أنسى أولى المرات التي
قرأت لها في مدونتها، تدوينتها التي كتبتها بعدما كانت في السجن مع زوجها ..
خرجت وبقى هو، أعجبت بصفحتها
كثيرًا وبادلتني المتابعة..
ومرت الأيام وغبت كثيرًا عن
التدوين والمدونات..
الشعور بعدم النفع وصعوبة
شرح ما بك.. يسبب لك الكثير من البعد والتناقضات
تلت الليالي.. صباحات طويلة..
أقحمت نفسي في مجموعة نسائية لا
أعلم ما سبب وجودي فيها حتى الآن..
كانت توأمتي عضوة مهمة فيها..
ومضى الحال بصمتي المعهود في هكذا أماكن..
كانت فتاة كريمة الخلق لطيفة
الكلام، شديدة التمسك بالحق، ثابتة المبد، معتدلة الفكر..
استطاعت بجميل كل ذلك أن تحتل
مكانة عظيمة عندي..
كان الحديث معها بعيدًا، فلم
نلتقِ ولا مرة، رسائلنا العابقة بالأخوة والمحبة..
ونفوسنا المتشابهة، كانت تزيدنا
قربًا يومًا بعد يوم..
تحدثنا طويلًا عنها وأحلامها
وعن رسائل زوجها المعتقل وماذا قد حدث..
كان يُؤلمني والله
قلبي أيّما ألم وأنا أرى صديقتي زوجة المعتقل والمجاهد تخطّ أحرف
“اشتقت إليكَ
زوجي”… ! وغيرها وغيرها..
ليست أحرف صماء أبدًا..
بل تنبض لوحدها حروف لو وضعت على قلوب البعض لزادتها اشتعالًا..
وكم شعرت بقلبها الغض يعصره
الألم، وهي تضمد جرحه، بالحكي تارة، والتذكر تارة، والصبر تارة، ولا شيء يوقف رغم
ما تفعله نوبات الألم الموجعة مرة بعد أخرى..
ابنها شيءٌ
جميل هو كل ما تبقى لها من زوجها، اسمه له وقع في قلوب الكثير..
لم تكن أحاديثنا تكتمل مخافة
المراقبة، ونتعاهد بالتواصل واللقاء لنكمل ما تبقى من أحاديث..
من يقرأ كتاب "رسائل
لشهيد" ويعرف قصتها تلك المجاهدة المناضلة، ويقرأ لزوجات المعتقلين
والمجاهدين والشهداء: يدرك عمق بل هي ذرة لا تكاد تذكر من جمال كل تلك المشاعر
الراقية التي غابت عنا ولم نعهدها إلا في قصص تخطها أحرف من خيال..
وحين تكون في عمق
قصة ما لن تستوعب أي من تفاصيلها الكبيرة..
ولعل السنوات تمر بك ولا تستوعب
إلا حين تنتهي كلها.. ويتبقى لك شيء من الذكرى ونغصة ألم على ما رحل..
فتاة عشرينية،
التقت بشق روحها وسكن فؤادها وخليل عمرها.. ربط الله بينهما بميثاق غليظ..
قررا الرحيل للجهاد،
انطلقوا لدولة تقاسم دولتهم الحدود من باب التمويه..
في طرفة عين كان
كل واحد منهم في سجن مظلم وحيد، غرباء في المكان والزمان..
لم يشأ الله لرحلتهم الجهادية
بالاستمرار، نقلوهم لبلدهم سجناء..
فتشوها، وعذبوها، وطادروها،
واحتجزوا قرة عينها..
لم تيأس.. وكذا هو..
استمرّ ذلك لعدة
سنوات ثم منَّ الله عليه فأخرجه من السجن في أعقاب ثورة عارمة..
ثم رزقوا بولد جميل..
صمدوا طويلًا،
وقدر الله له السبيل بالهرب من هؤلاء الكائنات التي لا يمكن أن نسميها بشر..
وخرج عن البلاد لبلاد يكمل فيها
مسيرته الجهادية..
لم تحتمل
البعد، ولم تطِق الفراق، ولم ترد أن يذهب وحده لله..
قابلتني قبل
أن تذهب.. وفكرت كثيرًا لعلها لن تعود..
كان لقاء متسارع.. نسابق فيه
الزمن نحكي عن مشاعرنا أو عن ما لم يكتمل من أحاديث سابقة، رسائلهم، لقائاتهم،
معاناتها..
كانت وهي لازلت تتحدث عن ماضيها
تعيش واقعًا خفيًا في قلبها لم يمكنها البوح به، ولا مشاركتنا به..
وكم يعظم ذلك ..
روحها المرحة المتقبلة لكل
الاحتمالات كانت تجعلني أمام نفسي أشعر بالمهانة..
رحلت إليه، وبعد بضعة أيام يقدر
الله له الرحيل غريب مجاهد ونسأل الله أن يتقبله شهيدًا..
ومنذ ذلك الزمن وأنا أتخطى حدود
الكلمات لأحاول أن أهنئها ولا أستطيع..
أيا زوجة الشهيد .. هنيئًا
لكِ..
هنيئًا لكِ قلبك وثباتك، لست
أمتلك حروفًا أبثها لكِ..
ولا أملك سوى الدعاء، تذكري يا
حبيبتي دومًا أنّ أشقى أهل الأرض أشقاهم، حين يشمّ ريح الجنّة ويرفل لحظة في
نعيمها ويخطف نظرة لأشجارها ..وقصورها سيصدح بها قلبه: “والله يا ربّ ما رأيت شقاء قطّ ” !!
أرأيتِ!؟ صارت الدُنيا كل الدنيا وكأنّها عَدَمْ!
كل أوقات البكاء، وغصات الوجع،
وضيق النفس، وأنات القلوب، وشهيق الليل،
ووحشة الطريق، وغصة الدموع،
وحشرجات الشجن، كلها إلى زوال..
لا بأس يا قُرّة عينه وقلبه.. أنتِ [زوجة الشهيد بإذن الله]..
لله ما أعطى، وله ما أخذ، وكُلّ شيء عنده بمقدار..
لم أستطع أن أقولها لكِ مباشرة..
وكلما مرت الأيام، وكلما
أرى ثابتك يوجعني قلبي أكثر..
استودع الله قلبكِ يا
حبيبتي..
بين طرفة عين وانتباهتها قد
تكونين وشهيدكِ في قصركما تتنعمان سويًا بإذن الله فاثبتي حتى اللقاء..
أسأل الله أن يمن
على ضعف قلبك بالقوة، وأن يربط على فؤادك كما ربط على فؤاد أم موسى عليه الصلاة
والسلام..
كوني كما كنتِ معه قوية مجاهدة،
اكملي المسير..
اجعليه يبتسم ويُباهي أهل السّماء بثباتكِ وصَبركِ..
آواكِ الله وشهيدكِ في فراديس جنّته ♥
وأقر عينكِ بولدكِ يا حبيبة..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق